الرئيسية / زاد الاخرة / جامع السعادات – محمد مهدي النراقي – ج ١

جامع السعادات – محمد مهدي النراقي – ج ١

التجدد والزوال، ولكنه يحصل منه أثر في النفس، فإذا تكرر استحكم الأثر فصار ملكة راسخة مثاله الحرارة التي تحدث في الفحم فإنها ضعيفة أولا وإذا اشتدت تجمرت ثم استضاءت، ثم صارت صورة نارية محرقة لما قارنها مضيئة لما قابلها، وكذلك الأحوال النفسانية إذا تضاعفت قوتها صارت ملكات راسخة وصورا باطنة تكون مبادئ للآثار المختصة بها، فالنفوس الإنسانية في أوائل الفطرة كصحائف خالية من النقوش والصور تقبل كل خلق بسهولة، وإذا استحكمت فيها الأخلاق تعسر قبولها لأضدادها، ولذلك سهل تعليم الأطفال وتأديبهم وتنقيش نفسهم بكل صورة وصفة ويتعسر أو يتعذر تعليم الرجال البالغين وردهم عن الصفات الحاصلة لهم لاستحكامها ورسوخها.
ثم لا خلاف في أن هذه الملكات وأفعالها اللازمة لها إن كانت فاضلة كانت موجبة للالتذاذ والبهجة ومرافقة الملائكة والأخيار، وإن كانت ردية كانت مقتضية للألم والعذاب ومصاحبة الشياطين والأشرار، وإنما الخلاف في كيفية إيجابها للثواب أو العذاب، فمن قال إن الجزاء مغاير للعمل قال إن كل ملكة وفعل يصير منشأ لترتب ثواب أو عقاب مغاير له بفعل الله سبحانه على التفصيل الوارد في الشريعة.
ومن قال إن العمل نفس الجزاء قال إن الهيئات النفسانية اشتدت وصارت ملكة تصير متمثلة ومتصورة في عالم الباطن والملكوت بصورة يناسبها إذ كل شئ يظهر في كل عالم بصورة خاصة، فإن العلم في عالم اليقظة أمر عرضي يدرك بالعقل أو الوهم وفي عالم النور يظهر بصورة اللبن، فالظاهر في العالمين شئ واحد وهو العلم لكنه تجلى في كل عالم بصورة، والسرور يظهر في عالم النوم بصورة البكاء، ومنه يظهر أنه قد يسرك في عالم ما يسوءك في عالم آخر، فاللذات الجسمانية التي تسرك في هذا العالم تظهر في دار الجزاء بصورة تسوءك وتؤذيك، وتركها وتحمل مشاق العبادات والطاعات والصبر على المصائب والبليات يسرك في عالم الآخرة مع كونها مؤذية في هذا العالم.
ثم القائل بهذا المذهب قد يطلق على هذه الصورة اسم الملك إن كانت

(٤١)

من فضائل الأخلاق أو فواضل الأعمال واسم الشيطان إن كانت من أضدادها وقد يطلق على الأولى اسم الغلمان والحور وأمثالهما، وعلى الثانية اسم الحيات والعقارب وأشباههما، ولا فرق بين الاطلاقين في المعنى، وإنما الاختلاف في الاسم.
وهذا المذهب يرجع إلى القول بتجسد الأعمال بصورة مأنوسة مفرحة أو صورة موحشة معذبة، وقد ورد بذلك أخبار كثيرة: منها: ما روى أصحابنا عن قيس بن عاصم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:
يا قيس ” إن مع العز ذلا ومع الحياة موتا ومع الدنيا آخرة، وإن لكل شئ رقيبا وعلى كل شئ حسيبا، وإن لكل أجل كتابا، وإنه لا بد لك من قرين يدفن معك وهو حي وتدفن معه وأنت ميت، فإن كان كريما أكرمك، وإن كان لئيما ألأمك، ثم لا يحشر إلا معك ولا تحشر إلا معه ولا تسأل إلا عنه، فلا تجعله إلا صالحا: فإنه إن صلح أنست به وإن فسد لا تستوحش إلا منه وهو فعلك “. ومنها: ما استفاض من قولهم عليهم السلام ” إن من فعل كذا خلق الله تعالى ملكا يستغفر له إلى يوم القيامة “. ومنها:
ما ورد ” إن الجنة قيعان وغراسها سبحان الله “: ومنها ما روي ” إن الكافر خلق من ذنب المؤمن ” ومنها: قولهم ” المرء مرهون بعمله “. ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ” الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجري في بطنه نار جهنم ” ويدل عليه قوله سبحانه:
(وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) (13).
وربما كان بقوله تعالى:
(ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون) (14) وقوله تعالى:
(إنما تجزون ما كنتم تعملون) (15).
إشارة إليه حيث قال عز وجل (ما كنتم) ولم يقل بما كنتم.
وقال: فيثاغورس الحكيم ” ستعارض لك في أفعالك وأقوالك
(13) التوبة الآية: 49.
(14) يس الآية: 54.
(15) الطور الآية: 16.
(٤٢)

شاهد أيضاً

الشهيد الشجاع: البيان الأخير لمحمد عفيف

الشهيد الشجاع: البيان الأخير لمحمد عفيف 2025-11-18 صحيفة الأخبار – سيف دعنا قبل عام بالضبط، ...